
في المقهى القابع في أحد شوارع مدينة دمشق، كانت الأجواء ضبابية قبيل الغروب بقليل، مشبعة بحبات المطر الهادئة على زجاج واجهة المقهى، يجلس شاب طويل القامة، ناضج بما يكفي، يمسك بيد امرأة متوردةَ الخدين، ذات ملامح مليئة بالحنان والطمأنينة.
وعلى الرصيف المقابل كان يجلس رجل تقدم به العمر، وضرب رأسه الشيب متفجرًا، يراقب وينظر لهما باهتمام واضح. خاطب نفسه بنبرة تنم على الإحباط: “لا بد أنه أسعد الناس ولا يعرف البؤس طريقًا إليه”، فيما هو يقضم كسرة خبز ويطحن خيارة بين أسنانه ويتنهد.
كانت المرأة مكورة يديها في حالة دفاع وسارحة في الطريق، بينما ملامح الشاب تنم عن قلق وتوجس.، فبادرته المرأة:
-أنت مهمل يا حسام، لنتفق على هذا على الأقل.
-نعم كما تعلمين لا أجد متسعا من الوقت، ولكن أنا جاد في طلبي أرجو منك أن تأخذيه على محمل المسؤولية يا رُبى.
مسحت رُبى وجهها بكفيها بقلق واضح، ثم قالت متسائلة:
-كيف تطلب يدي للزواج وأنا لا أعرف شيئًا عنك، بالكاد أعرف أين تسكن وما أسمك، ماذا عن الماضي؟ أنا لا أعرفك حقًا يا حسام، وأشعر أني مراهقة بالجلوس معك هنا، ربما القدر لم يهتم في ترتيب أقدارنا وربما علينا أن نفترق هنا.
-هل هذا جوابك يا رُبى؟
اختصرت رُبى وهي تتحاول لجم دموعها:
-نعم.
قال حسام في محاولة صمود:
-ماذا عن الماضي، هل تودين سماعه؟
-أود ذلك.
بعد تنهيد يبادر حُسام بالقول:
-إذن اسمعي هذه القصة وسوف اختصرها لكِ قدر الإمكان.
***
في يومًا ما، وبينما كنت أجلس مع والدي على طاولة الطعام، ننتظر وجبة العشاء. أتت والدتي ببعض الصحون وهي تبكي ووضعتها على الطاولة، ثم قامت بمسح دموعها. لتهرب إلى المطبخ مرة أخرى، وتعود لتضع بعض أدوات الطعام المتبقية.
كنت أراقب بكائها ولا أعلم ما الذي يحدث بالضبط؟ كنت أود سؤالها لكنني لم انتبه إلا بصوت والدي وهو يقول: “اسمع يا بُنيّ، الليلة لن تنم في المنزل، فأنت شاب وتستطيع أن تعتمد على نفسك، أكمل العشاء وأرحل عن المنزل، ولا تعد أبدًا. الحياة مؤلمة يا بُني، أعرف ذلك، ولهذا يجب عليك أن تبدأ بالتسلح لها من الآن. أخرج ولا تعد، أضرب الأرض وتعثر ألف مرة، وستقوم بعد ذلك، و عنها ستشكرني”.
كانت كلماته تسلخ روحي عن جسدي. حينها أصبحت وحيدًا دفعة واحدة، وفي لحظةٍ مباغتة سقطتُ في عالم الوحدة فشعرت بالخوف يأكلني، ولكن أكثر ما فاجأني هو كيف لوالد أن يتخلى عن ابنه ليبقى وحيدًا ضائعًا، وهذا الابن هو من يعول والديه، وقعت حبات الأرز في الصحن وأنا أتأملها تسقط تباعًا، وكأنني أرى روحي تسقط بلا توقف.
انهمرت عيناي بالدموع وأشتعلت الكراهية والحقد في داخلي. هممت بالخروج مسرعًا قبل أن أمسّ الطعام، وفتحت الباب وصفعته به بأقوى ما عندي، وأكملت بكائي حتى تشبعت الطرقات من دموعي، مشيت عدة أحياء وأنا أبكي، وكلما نفذت دموعي توقفت، وشربت من مياه دمشق الباردة، مياه عين الفيجة، كانت تساعدني على تعبئة دموعي، ولم تتركني وحيدًا ليلتها.
أكملت السير حتى وصلت لتجمع حافلات جبل قاسيون، صعدت الحافلة الأولى وجلست بجوار عجوز كانت هرمة للغاية، شعرتُ أنها فيض عائم من الحكمة على هيئة بشر. وضعت يدها على كتفي وقالت لي: “اليوم تبكيك الحياة وغدًا تُفرحك”.
لا أخفيكِ يا رُبى أن كلماتها أثارت غضبي حينها وشعرت أنها تسخر مني، فأجبتها بإيماءة كاذبة، وعندما وصلنا لقمة جبل قاسيون وقفت على الحافة، فشاهدت نوافذ بيوت دمشق وهي مُضيئة تحت قدميّ بمسافة بعيدة، فترددتُ في أن أسقط أو أبقى في عالم الأحياء.
وبطبيعة الحال كما ترين فقد بقيت في عالم الأحياء. عشت سنوات من من الضياع والتخبط، وفي ظهيرة أحد الأيام وصلني نبأ من صديقٍ لي، يخبرني أن والدي في العناية المركزة وهو غائب عن الوعي. أشتعل خوفي الداخلي وعزمت ألا أضيع الفرصة، فهرعت مسرعًا إلى مستشفى دمشق مرورًا عبر الأحياء، والدكاكين، وذكريات طفولتي التي أخذت تتداعى من رأسي، مشهد أبي وهو يحملني ويرمي بي بالهواء، وهو ممسك بيدي ذاهبان إلى صلاة العيد، حتى أني تذكرت تلك اللحظة، عندما تخلى عني وعادت عيناي تبكي مجددًا.
عزمتُ قراري في أني عندما أراه سأخبره عن تلك الحكمة التي تعلمتها، حين وصلت المستشفى وصعدت الدرج كنت أسأل كمن يبحث عن وطنه سألتهم وصرخت بهم أين أبي!، أشارت لي إحدى الممرضات ببرود قاتل أن أتبعها بعد ما أخذت كامل الأسم، وجعلت تبحث ببطء وكأنها لا تعبأ بخوفي من أن أفقد نفسي.
وصلت أخيرًا بعدما مشيت بين دهاليز الموت، وصرخات المرضى، فتحتُ باب الغرفة ووجدت والدي نائما، تقدمت ببطء وحملتُ يده، ووجدتها باردة جدًا، أنتابتني قشعريرة ولهثة سريعة، شعرت أن خيبتي قد جلست على صدري، سألت الممرضة:
-متى سيفيق؟
فسمعت صوت والدتي تجيبني من الخلف:
-لن يفيق، لقد رحل وأنت تأخرت.
نظرت خلفي فوجدتها على كرسيّ متحرك، ويبدو أنها قد شاخت دفعة واحدة، واشتعل رأسها بالشيب، تمسك بيدها تفاحة لا تستطيع قضمها، وأكملت حديثها:
-لقد رحل وسوف ألحقه قريبًا.
جثوت على ركبتي واحتضنت والدتي وكأني حصلت على آخر قطعة مني، تمسكت بها كثيرًا وكأنني أتبرأ من هجراني لها كل تلك السنوات، وعزمت أن أتمسك بها مهما حييت لأنها القطعة الأخيرة من روحي، ولكن في صبيحة اليوم الخامس من وفاة والدي، هممت لغرفة والدتي بيدي كأس ماء وحبة تنظيم ضغط الدم بيدي الأخرى، طرقت بابها وأجابت أن أدخل أعطيتها الدواء ووجلستُ بجوارها. تنهدت تنهيدة طويلة وقالت:
-اليوم سأرحل يا بُني.
وتنهدت مرة أخرى وقالت:
-كم هو جميل الرحيل مع الأحبة.
اغرورقت عيناي بالدموع وفتحت النوافذ، وأخبرتها بأن العصافير تغرد اليوم بنشاط لا نظير له اليوم، فعادت للتنهد مرة ثالثة وقالت:
-كم أنت مسكين يا بني، لا تعلم أني أسمع تغريد عصافير الجنة، فهي من أيقظتني هذا الصباح.
اختنقتُ وأنا أحاول كبت دموعي، وخرجت مسرعًا وأكملت بكائي على سريري بعيدًا عنها، كانت الوحدة حينها تطرق عظامي كمطرقة فولاذية وتهشمها حتى غفوت. ثم استيقظت مرعوبا ألهث والعرق يتصبب مني، انطلقت بسرعة وحذر لغرفة والدتي، كنت أحاول حينها أن أطمئن، أمسكت بكفها وضممتها فوق راحة يدي شعرت بالبرودة نفسها!.
أقشعر جسمي ودب الرعب قلبي، فقد توفيت والدتي حينها على سريرها سعيدة برحيلها مع زوجها.
***
أكمل حسام وهو يضم كفيه ندمًا وأخذ ينظر للمتشرد من خلف واجهة الزجاج:
-أنظري يا رُبى هذا المتشرد هناك لابد أنه سعيد، بطريقةٍ أو بأخرى، ولكن لو افترضنا أنه والدي فسوف أشكره بكل تأكيد؛ على أن علمني كيف أنجو، ولكنه حمّلَ روحي كمية هائلة من البؤس لا تُحتمل، تجعلني دومًا خائف من الرحيل، فماذا لو رحلت وحدي؟
أمسكت رُبى راحة يديّ حُسام وقالت:
-حُسام أنا بقربك لا تقلق.
ثم هبت نسمة باردة حملت معها ورقة شجرة النارنج عاليًا، وصعدت بها للسماء، وتركتها تقع ببطء لتقول لنا: “لا يبدو كل شيء على حقيقته للوهلة الأولى، أمعن النظر”.
“من الأفضلِ لك ، ألا تحاول العثور على المنطق.” محمد عماد الدراج