نشر غسيل

  • الأربعاء أبريل 1, 2020
  • 0 تعليق
نشر غسيل

لم أجرب شعور الكرسي في الحديقة عندما يهجره همس عاشقين، حين يكتفي بخشخشة أوراق الأشجار المتساقطة، أو تقصفها تحت أرجل العابرين، إلا عندما حطت غربان الرحيل على شجرة حياتي، بلا موعد، هكذا حطت رحالها وملأت دنياي بنعيق الخراب.

كل يوم في طريقي إلى البيت تبدو أغصان الأشجار المحيطة به متشابكة كلغز صعب. أترجل من السيارة، أقف لبرهة كمسافر رجع من غربته، أنظر إليه فيبدو موحشَا، وكأنه بيتًا تسكنه الأشباح، أسير باتجاه الباب. أفتحه وأدلف، يبتلعني بغصة إلى جوفه، حيث السكون يختلط مع الغبار ويستقر فوق الأثاث وأسطح الطاولات، ورغم الغبار فرائحة عطركِ تثيرها خطواتي في البيت، وهنا في صالة استقبال الضيوف تفوح أكثر، حيث أقمتِ حفلة يوم زواجنا، إذ تقولين لي: هل ستتخلى عني يومًا، وأجيبكِ: أنتِ وطني. فتضحكين.

ضحكتكِ ما زالت تلتصق في السقف وتضيء كالثريا، ترسم في خيالي رقصتكِ بثوبك الأحمر وشعركِ المنسدل كأطراف ليلة طويلة.

حبيبتي لم أكن السبب فيما حدث بيننا، لم أكن السبب في رحيلكِ، فأنتِ من أخفى عني أمر تناولكِ لحبوب منع الحمل؛ لرغبتكِ في عدم الإنجاب؛ حتى تحققي طموحكِ في أخذ شهاداتكِ العليا.

***

جمعت ملابسي وأغراضي ولحظات الفرح التي عشتها معك، ملأت بها حقائبي حتى أضحت تثقل خطواتي بالحنين، وتشدني للبقاء، فأجرُّها بكل ما أوتيت من خيبة.

تركت لك لحظات قسوتك وغضبك، نثرتها في أرجاء البيت؛ لتشعر بالندم. تركت لك- على مخدة نومك – تلك اللحظة التي استوقفتني فيها، وأنا أصعد الدرج ومعي كأس ماء، حينها خفت أن تكتشف تلك الحبة التي اعتصرها بيدي الأخرى، وأنت تطالبني بأن أنجب، أو أن أذهب لعيادة نسائية؛ لبحث مشكلة تأخر الحمل.

حقيقة ذرفت الدموع شفقة عليك وعلى نفسي، فكما تريد أبناء مني فأنا كذلك أريد أبناء منك، ولكني خشيت إن علمت بنيتي تأجيل الحمل والإنجاب إلى ما بعد أخذ الشهادة العليا وتحقيق طموحي أن تغضب مني، أو أن تجبرني على ترك تناول الموانع.

مرت الأيام، وبالرغم من عدم حديثك في هذا الموضوع، وسير حياتنا بهدوء، إلّا أني لاحظت عليك بعد فترة تغيرًا حتى بدت حياتي معك وكأني أعيش في غرفة بدون باب وبدون نافذة ولا أثاث، فقط أربعة حيطان، وسقف. أعيش فيها كلبوة متوحشة، بدليل هروب يدك من لمساتي عندما أجاورك على الأريكة أو في السيارة.

في تلك الليلة التي أخبرتني بأنك ستطيل السهر مع أصحابك تأخرت كثيرًا، قلقت عليك، واتصلت بك. فاجأني صوت ليس بصوتك:

_ صاحب الجوال أصيب في حادث مروري، هو الآن في المستشفى.

بحثت عن قلبي قبل أن أبحث عن عباءتي. اتصلت بأخي وحضرت مسرعة إلى المستشفى. هلعي يسبقني في الممرات وبين المصابين والمرضى. حين أردت الدخول لرؤيتك استوقفنا الطبيب، ووجه حديثه لأخي بصوت حاول أن يجعله أقل وضوحا نظرا لسرّيته، قال:

_ إنه بحالة جيدة. فقط بعض الكسور، ليست خطيرة، ولكن آمل ألّا تخبروه بوفاة زوجته وجنينها، فقد سأل عنها كثيرًا. أخبرناه بأنها في حالة حرجة.

عندها تساقطت مشاعري كحبات الخرز، فما عدت أدري أيها ألتقط. هلعي عليك أم حنقي، فرحي بنجاتك أم غيرتي؟ في منطقة بين الضحك والبكاء أقف مسترجعة شريط الذكريات. أتوقف عند تلك اللحظة التي طالبتني فيها أن أنجب، أو أن أبحث عن علاج. تلبستني روح اللبوة المتوحشة. أدخل عليك الغرفة. تبتسم؛ لرؤيتي. أبادرك:

_ ماتت هي وجنينها، كانت حاملًا!

تجيبني في عمق ألمك، وصدمتك:

_ ولكنك لا تنجبين، والداي يريدان…أنا، أريد ولدًا أو بنتًا.

_ أنا أتناول موانع الحمل، أريد أن أكمل دراستي وأحقق طموحي، ناقشتك في هذا الموضوع قبل الزواج، فعرفت أنك ترغب في الإنجاب مبكرًا، وأن هذا الأمر غير قابل للمناقشة. أجبرتني على أن أكذب، وأخفي الأمر عنك.

***

أنا كاتب هذه القصة …

أنتظر في هذه اللحظة مجيء صديقي، الذي كتبت قصته دون علم منه، هذه القصة التي أعجبت صديقًا آخر وأراد أن يخرجها كفيلم قصير، بعدما أرسلتها له ليقرأها.

لم أكن أعرف ماذا سيقول صديقنا صاحب القصة؟ لذا دعوته لنتناقش في هذا الأمر، لأنني أعتقد بأنها قصة جديرة بالنشر، وأثناء تحضيري للقهوة وإذ بجرس الشقة يقرع، أيقنت بأنه هو، فلست أتوقع مجيء أحد سواه، وبالفعل كان هو.

دخل وهو يكاد يضيق به ضجره وذلك حين رمى نفسه على الأريكة. لم أسأله عما به، إنما استأذنته؛ لإكمال إعداد القهوة، ذهبت وانهمكت في تحضيرها بأسرع ما يمكن، ولكني سمعت بعد مدة صوت باب الشقة وهو يفتح ثم يغلق بكل هدوء، فخرجت إلى الصالة ووجدت المكان خاليًا منه عدا تذكرة طيران ممزقة، وأوراق كانت على الطاولة، لقد كانت مسودة القصة التي كتبتها، إنها قصته.

تناولت الأوراق حين لاحظت بأنه قد دون عليها بعض الكلمات. شدني فضولي لقراءتها، والتخلي عن التفكير في كيفية وصول هذه الأوراق إلى يديه، كتب: “الحقائب الممتلئة بالخيبة

تثقل الخطوات بالحنين، عندما يبدو خط الرجعة في منتصف الشوق أقرب من نهاية الطريق”.

شعرت بخيبة لا مثيل لها، مثل أن تنتظر خبرًا سعيدًا وتتفاجأ بوفاة عزيز لك، ماذا يمكنني أن أعمل الآن؟ هل اتصل به لأعتذر منه؟ أم أتركه مع نفسه لأعود له فيما بعد؟ لكنني تذكرت صديقنا المخرج ذاك، الذي أبدى رغبة في أن يخرج هذه القصة كفيلم قصير، تناولت هاتفي المحمول، وكتبت له رسالة قصيرة: “أعتذر منك، لا يمكننا الاستمرار في مشروع الفيلم؛ لأن صديقنا صاحب الفكرة، يؤمن كثيرا بأن الفن عبارة عن نشر غسيل أحد ما”.

قصة قصيرة للقاص ثويني محمد آل عليوي

“ ما عساي أفعل حين يهطل المطر إذا كانت مظلتي غيمة ؟”, ثويني

مشاركة:

اقسام المدونة