
قبل يومين، صنعتُ للمجتمع معروفا. أجل! إذا ضرب المرء فعليه أن يضرب مثلي.
كل شيء ابتدأ في ليلة شتوية قضيتها فوق سطح الفيلا. الهواء البارد يجمد سيلان الكآبة على وجهي، وأمامي كوب اسبريسو يشعل الأعصاب. كنت أحاول أن أحملق في السماء الكالحة، المعشّقة بنقاط فضية لامعة، كي أكوّن رسمة لدب، أو مؤخرة، أو أي شيء؛ ولكني لم أقوَ على ذلك، إذ كلما نظرتُ فوقي أحسست بأني على شفا وادٍ يغطي عمقه الضباب.
إحساسٌ بسقوط الروح في هوةٍ غريبة، تدفعني إلى الشهيق مع كل نظرة. أخذتُ أفكر تُرى كيف يكون الموت؟ هل هو العبور عبر هذا السواد المهيب، إلى عوالمَ سحيقة! كانت الفكرة ملحّة على نحو غريب. رغم إحساسي العميق بالاكتئاب، أعترف أني رعديدٌ كفاية كي أقدم على الانتحار. وكما أن الاعتقاد السائد بين الناس، أن عبادي الجوهر أخطبوطُ العود؛ فقد كان من حولي يعتقدون أني أخطبوط السعادة.
كانت زوجتي تُزري عليّ ملامحي الكئيبة التي لا يجب أن ترتسم على وجهِ رجل أعمال؛ بين قوسين (مليونير). لذا صرتُ أتحرّج من كوني مكتئبا وكأني أصبتُ بالناسور، فأقول لنفسي، لا يا اكتئاب، انصرف يا اكتئاب، لا يجب أن يرى الناس أنك تحرن متوجعا من ناسورٍ في رأسك. فيكفي أن يلتفت من هو مثلك إلى عامل نظافة، أو شحاذ، أو عجوز اغبرّت عباءتها، كي يرفع الزبيرية ويصفع رأسه بها.
في تلك الليلة، سحقني الناسور؛ أقصد الاكتئاب في خلاطٍ يجمع الأفكار والذكريات واللامعنى. ولأني لا يجدر بي أن أكتئب أمام المجتمع مثلما ذكرتُ، فقد قررتُ أن ألاعبَه. كانت فكرةً التمعتْ في رأسي مثل مطلع قصيدة يلتمع في مخيلة شاعر؛ حتى أني سجّلتُ الفكرة في ملاحظات الجوال كيلا أنساها.
مددتُ يدي إلى عكازي المسنود على الطاولة، وارتكزتُ على ركبتين من قش؛ فبدأ ببغاء زوجتي الواقف على غصن صناعي، بجانب فسقية تُخرخر، يُصوّت ويُصفّر بشكل مزعج “يا حلو .. يا حلو” وكعادتي في الردّ على كلامه الجميل، قلتُ “الله لا يحلي أيامك”.
كان عليَّ إيجادُ متواطئٍ لتنفيذ الفكرة. فحادثتُ سكرتيري المصري سمير، الذي بات صديقي الوحيد في العالم؛ هل هناك ما يدعو إلى السخرية الاجتماعية أكثر من التجاء مليونير إلى مصادقة سكرتيره الذي يتقاضى خمسة آلاف ريال على الورق، (وخمسة عشر ألف ريال خارج الورق نكايةً في بكريّه). ما إن حكيتُ له عن نيتي، حتى ضحك ظنا منه أني أمزح. أكّدت له أنه إن نفذ هذه الخطة، وحافظ على سريتها، فلهُ مني ثلاثمائة ألف ريال. وكي يثبت لي أنه سينفذها بحذافيرها، حلف ستين مرة بحياة أبنائه أن الجنّ الأزرق لن يعلم شيئا. وهكذا سلّمته زمام الأمور. قلتُ: “الموضوع بسيط..”، كان يحاول استنكار استبساطي للموضوع، بلحظاتِ صمتٍ يبدو ملتبخا فيها، ولكنه سرعان ما يعود إلى حماسته مشحوذًا بالمبلغ الموعود.
في عصر اليوم التالي، أخطرني أن كل شيء جاهز، ولكن هناك سلسلة من المعاونين، يريدون أيضا نصيبهم مقابل مخاطرة كهذي. ولأن المال لم يكن يومًا مشكلتي، فقد حولتُ له كل المبالغ المطلوبة، كي يتصرف فيها باعتباره مدير المشروع. وقد يطرأ بذهنك أنه كيف لي أن آمنه على مالي! أرى السؤال منقوشا في سواد عينيك؛ وسأتركه في مكانه.
خلال أيام ثلاثة، كانت ليلة النحتِ جاهزة. مضيت برفقة سمير إلى صالون فني، حيث تشتغل هناك شابّة مليحة المظهر، في نحت المجسمات ورسم الوجوه في مجال الخدع البصرية. لحسن الحظ لم تكن ثمة حاجة لإطلاعها على سبب رغبتي في صنع تمثال مطابق لوجهي، وإضافة الماكياج لوجهي؛ ربما افترضت في سريرتها أنني غني فاضي، ولها كل الحق في ذلك باعتبارها من أفراد المجتمع.
صحيحٌ أن ظهري تصلب وأنا جالس، وأحسستُ بفكّ كلبٍ يعضُّ عصعصي، إلا أن النتيجة النهائية لشغلها، جعلتني أوشك على ضمّها إلى صدري؛ لولا أني تراجعت في اللحظة الأخيرة، خشية أن يُكتب في الأخبار أني رجل أعمال كبير في السن، ومتحرش. كافأتُ الفتاة وأطريت على موهبتها التي حوّلت الطين إلى نسخة مطابقة لوجهي، ولا أخفي أني تنغَّصتُ وهلة، فقد تجلت لي رمزية ترابطية بين الطين والموت.
وكي تكتمل أطراف الأحبولة، وضعت الفتاة اللمسات الأخيرة على وجهي فلم أعرفني حين نظرت في المرآة. لفَّ سمير القناع في أوراق جرائد، ومضينا سويا في مشوار آخر. هذه المرة، جاءني سمير بثلاثة ممثلين غير محترفين، يطمعون في المال لقاء الخدمة. عرفتُ أنهم عمّال بسطاء من هيئاتهم الرثة. لم تمضِ دقيقتان حتى اخترتُ أحدهم لسببين؛ الأول أن قوامه مشابه لقوامي، والثاني امتيازه بصنّة إبطٍ تحرق الهواء وتُسبِّب دوخةً في الرأس. وهو بالضبط ما أردتُه؛ أن أكتم المجتمع. اكتملت أركان المؤامرة التي حبكتُ خيوطها. فقلت: “سرى الليل يا أبا سمرة”. وتمّ كل شيء كما خططت. ركَّبنا كاميرات خاصة في المكتب. فجلستُ في غرفة سمير السكنية أتابع عبر الشاشة ما تصوره الكاميرا في مكتبي.
***
أُعلِنَ عن وفاتي في المكتب، إذ نقل سمير نبأ الفاجعة إلى ابني البكر مراد.. فرأيته بعد ساعة تقريبا يدخل البناية بكوب القهوة في يده، وقد سبقه بوقت طويل فريق وهمي من المسعفين، الذين نقلوا جثمان الممثل ذي الرائحة الكريهة إلى الثلاجة المستأجَرة؛ بمعاونة أشخاص دفعت لهم. وكان هناك شيخ (ممثل) في المكتب زعم أنه صديقي، حثَّ مراد على الإسراع في دفني اتباعا للسنة.
عند ثلاجات الموتى، داهمتني رهبة مربكة فيما أحبُك حول وجهي الشماغ؛ خفتُ أن ينتبه أحد لوجودي. سألني أخي عبد الفتاح من أكونُ فرُحْتُ أبأبئ متظاهرا بالبكم حتى أنقذني سمير، وأخبرهم أني من المساكين الذين كان المرحوم يعطف عليهم. فدعوا لي بطريقة سينمائية أنني بالفعل كنت راعي معروف، ويدي ممدودة بالخير؛ والحق أني لم أكن.
أخذتُ أتنصّت على من حولي؛ فشبَّ خلاف بين مراد وأعمامه. أخي عبد الفتاح يُصرَّ على دفني في المدينة، ففيها مسقط رأسي، ولكن مراد يصر على جدة، في حين تصر زوجتي بصوتٍ ملعلع على دفني في مكة؛ عند الحرم.
استمر الخلاف ساعة بين أخذ وردٍّ ووساطاتٍ لأصدقاء وأقارب، حتى رسا الأمر على جدة، استنادا إلى قول صديقي الشيخ (الممثل) أن محل الدفن لا يشكل فرقًا في الشرع. لمحتُ ارتياحا في الوجوه ينمّ عن غبطة بالإفلات من مشوارِ ساعةٍ أو أربع إلى مكة أو المدينة؛ إذ اختتم كل واحد كلامه بأنه: أجل لا فرق والله، ادعُ له فقط، هنا أو هناك هي حفرة في الأخير، الله يرحمنا برحمته. ولم تلبث رائحة صديقنا الذي أوصيته ألا يستحمّ أن فاحت في غرفة الثلاجات. راقبتُ الوجوه تتلوّن وتتشنّج. حاول مراد أن يدفع الناس إلى الخروج، وراح يكلم أعمامه بتوتر عن خروج رائحة كريهة مني رغم غسلي وتطييب المكفن (الممثل) لي، وقام بسؤال سمير إن كنت قد صليت اليوم آخر صلاة، وهل هناك دين علي، ثم استعان بالجوال كي يتصل على شيخ، فحوقل الشيخ على ما يبدو، وراح يتعمق في أسئلة مشابهة. وسمعت مراد يكلم أخاه الأصغر: “ماذا نفعل؟ لا أستطيع أن أطالع في وجوه الناس”. فأشار أخي عبد الفتاح على المُكفن أن يعطر جثماني كي يقتل الرائحة. وقامت أم مراد تولول حالما عرفت، فتجمهر الأهل والأقارب، وصار الكل يسأل عمَّا أصابها، فيما مراد يحاول عبثا إسكاتها. وما هي إلا لحظات وعرف الجميع أن جسدي يبثّ رائحة نتنة. فخرجت الجوالات من الجيوب والحقائب، وراح الرجال والنساء يجرون الاتصالات لاستشارة الشيوخ عن حالتي، وهل عليهم فعل شيء بهذا الشأن، وهل هذه إشارة إلى أنّي شَقي! ورأيتُ سائق أخي المصري مصطفى يخرج من البوابة ضاربا كفا بكف، قائلا بأسى “يخرب بيت أبوكِ دنيا وسخة”. وفجأة قفز أخي الأصغر الهادئ سامي هاتفا:
_لا تقولوا إلا خيرا .. وتفاءلوا .. الميت تخرج منه رائحة ولا بأس.
فقال عبد الفتاح:
_ومن قال ذلك؟
_بحثتُ مع بعض الأصدقاء.
فهتف مراد:
_لماذا قلت للناس وفضحتنا يا عم.
فشبت ملاسنة بين مراد وعمّه سامي الذي استبشع طول لسان ابن أخيه. فتدخل عبدالفتاح منهيا الخلاف بالقول “اعذره يا سامي.. أبوه مات” فأجهشت زوجتي بأعلى صوتها، وخبطت رأسها في الجدار بحركات ميلودرامية، ما اضطرني إلى الهروب من البوابة كيلا تفتضح ضحكتي.
***
نُقل جثماني المحشو بالقطن إلى المقبرة. وعند حافة القبر، انتهر ابن عمي الكبير، ابني مراد على تقدمه على الكبار والهبوط قبلهم إلى اللحد لوضع جثماني. فوقف يشير إليه وهو في السلم أن يصعد بسرعة، صارخا بصوتٍ مرتجف. ثم حدثت مجادلة عظيمة بين رجل لا أعرفه يقف فوق القبر يشير إلى ابن عمي وأخي عبد الفتاح حول الطريقة الصحيحة في توسيد الميت “لا يجوز يا إخوان ما تفعلونه”.
مع حلول ساعة العزاء. بدا الجو أقل شحناء بين الأقارب. فسمعتُ حديثا عن مشاريع البنوك الأخيرة، وأسعار الأسهم، في حين مازح أحدهم مراد بخصوص مباراة الاتحاد الأخيرة، فأضحكه. كل شيء بدا أنه سيتخذ منحى أقل درامية، حتى لاحظتُ أن ترتيب صف العزاء يتبع بروتوكولا معينا؛ وكان البعض يبدي امتعاضا من وضعه في مقعد متأخر عن الآخرين. ورأيت البعض ينهمك في مُسارّة تشي بالحنق. وتكهرب الجو حين وفد المصورون من بعض الصحف المحلية لتغطية عزائي. فكان أقاربي من جهة الوالدة، يحرصون على الاستئثار بأنظار المصور، ومن لم يكن يرتدي البشت منهم أرسل ابنه كي يجلبه. ثم كان أن تقدم الصحفي إلى إخوتي لصياغة النعي الذي سيُنشر، فطلب عبد الفتاح طريقة معينة في كتابته، غير أن خالي الكبير أدخل رأسه، وقال للصحفي أن يذكر اسم عائلتهم أولا، فهم الكبار، وهم أولى بي منهم. كتم عبد الفتاح غضبه، وراح يتشاور مع إخوتي حول الأمر. فبلغ الخبر النسوة في الفيلا. فعلمتُ من سمير الذي تضرج وجهه أن زوجتي اشتبكت بالأيدي مع ابنة خالي الكبرى، كما فهم من حديث مراد مع أعمامه. أمرتُ سمير أن يرحل في رحلته التي حجزها إلى بلده في خروج نهائي. فودعني مخفيا دموعه، والله وحده يعلم إن كان ذلك حزنا على فراقي أم فرحة بالثلاثمائة ألف.
أدركتُ أني لم أكن صاحٍ لحظةَ انتويت إشعال هذه اللعبة. فاستفظعتُ إعلامهم بالحقيقة. ما فعلتُه لا يفعله امرؤ عاقل، بل قد يودعوني في مصحة نفسية انتقاما. تأملتُ حياتي في اليوم التالي، فوجدتني قد عشت فوق الحاجة، وجربتُ كل شيء، وكان ما رأيت بعد موتي الوهمي قد استثار غبار الاكتئاب في نفسي. فإذا كنت تقرأ هذه الورقة التي بعثتُها إلى سمير، فاعلم أن الخبيث نشرها بعد موتي.
“دوائر تنبثق في الفراغ، تتدلى من الأسقف والشرفات، دوائر تتآكل الشغف، دوائر تخنق الكلمات، دوائر تكبل الأقدام، دوائر تطوق الرأس والقلب.. دوائر لا تموت” معتز البدر