
ابتسامة عريضة كانت تزين وجهها، مرتدية فستانا أحمر مطبعّا بدوائر بيضاء، شعرها أسود قد تدلى إلى كتفيها مثل شلال ماء. شعرت بيد لطيفة تتناولها من على الرف، أمعنت النظر إليها ثم وسدتها قاع عربة الشراء.
انزعجت من الزلزلة العنيفة الناشئة عن جر العربة عبر ممرات المتجر، وفجأة ارتطم جسمها بشيء أخذ يتدحرج حتى استقر في مؤخرة العربة، أنكرت ذلك الجسم الغريب الذي كان على هيئة ملتوية مرات عديدة جدا، لم يكن مثلها. ثم عانت مرة أخرى من تلك الهزات العنيفة، فارتطم بها أيضا ذلك الجسم الغريب مرة أخرى، حتى توقفت العربة أخيرا عند جسر يتحرك ثم يتوقف ثم يعود للحركة من جديد! وإذ باليد اللطيفة ترفعها إلى الأعلى وتضعها على ذلك الجسر المتحرك. فشعرت بشيء من المتعة وفكرت فيما بينها وبين نفسها:”إنه شعور جميييييل”.
فجأة ثمة من خطفها بسرعة ووجه إليها مسدسا ذا فم عريض! فضغط على الزناد. تسارعت الأمور بعد ذلك، يد أخرى تلتقطها، وترمي بها داخل كيس مع ذلك الجسم الغريب مرة أخرى. أخذت تسترجع ما حدث لها عند ذلك الجسر: “كان وميضا فقط، ذلك الذي شعرت به من ذلك المسدس”، تنهدت ثم أحست بخشخشة تطال الكيس، فتمنت أن يكون خلاصها من هذا الاختناق، ومن ذلك المجسم الغريب.
حملتها تلك اليد إلى عرش مرتفع وأجلستها عليه. كانت مشدوهة جدا. “واو، ما هذا المكان الرائع! ما كل هذه الألوان؟ يا له من احتفال جميل!”.
من ذاك العلو كانت تشاهد دمى راقصة، وأخرى تقوم بحركات بهلوانية مضحكة، انسجمت مع حكايات السلطان، وجالت مع الفارس بطولات الميدان، وصفقت لحكاية الإمام الغميان، وصفرت للأمير الذي يطوق الحسناء بالحب والهيام. ثم انفجرت ضحكا من منظر الدمى المتدلية من يد بشري نحيل، وحين مرت من أمام عرشها تلك الدمى التفتت إليها إحداهن وقالت:
_ من يضحك وهو فوق نعشه؟ يا لك من غبية!
ألجمتها تلك الكلمات! سكنت أركانها من هول الصدمة. ثم فزعت من صوت ارتطام على الطاولة التي كانت تجلس عليها، فماذا عساه يفعل هنا؟ لماذا هو يلاحقها؟
جالت ببصرها كل الأنحاء بعد انتهاء ذلك المهرجان، ضاق صدرها بالهدوء الخانق، ثم انتبهت لزاوية مرعبة جدا، كومة من أجساد الدمى بمنظر بشع للغاية، من الذي مزقها بهذا الجنون؟ ثم شهقت حين رأت مصرع إحداهن أمام عينها وقد أخرج المجرم أحشاءها ثم رماها لتلحق بالأخريات.
قررت الهرب وإذا بمخلوق ضخم يقف أمامها فلم تقو على الحراك. رأته يأخذ ذلك الشيء، يسحب منه فتيلا يريد إدخاله في فتحة قضيب حاد يلمع، فأمسك بها ثم أخذ يغرز تلك الأداة الحادة بقوة في باطن كفها الطرية.
أفاقت على صوت هتافات الجمهور التي أخذت تعلو وتعلو وتعلو، حاولت الهرب لكنها تألمت بشدة من جراء الخيوط التي قيدتها، فأدركت إنها في الأسر الآن.
“سنبدأ هذا المساء العرض الأول من عروض الصيف، إنها حكاية فتاة الرماد سندريلا”، فصفق الجمهور بشدة وهم ينظرون إليها، هابت الموقف جدا، تنظر للأعلى فارتعدت من نظرات ذلك الوحش المرعبة.
كانت تبكي بلا دموع، وتتألم بلا أنين، كلما حاولت نزع الخيوط ازدادت ألما، ولكن ما بالها الدمية التي إلى جوارها منسجمة مع القيود؟ ألا تتألم، ألم تخمش قلبها مخالب الأسر والاستعباد؟
***
انتهى العرض، ففتح الصندوق ليعيد الدمى إلى مكانها. ظلت في سكون حتى اطمأنت إلى غياب الضوء وتباعد وقع الخطوات. هدأ المكان من همس كل حي، فأخذت تتلمس قيدها من الخيوط العتيقة تريد الخلاص، وترنو إلى ولوج عالم الحرية، فقاطعتها بالحديث دمية:
_ لا فائدة، قد بلغت محاولاتك الألف، من تظنين نفسك؟ اخرجي من سلطة جنونك، ما أنت إلا دمية.
_ لو بلغت محاولاتي المنتهى ما يئست، إن كنت راضية بحالك فهٰذا شأنك، لكن لن أبقى في هذا السجن تحرقني جمرة الاستعباد، يمزق أحشائي ذاك البشري الظالم بخيوط اللهو من أجل ضحكات يقبض ثمنها دراهم، فيما أقبض ثمنها أنا ذلًا وألمًا.
_ اعتادي هذا الأمر كما اعتاده من كان قبلك، كلهم كان يرجو الخلاص ولكن..
_ ولكن ماذا؟
_ ألستُ بديلة لدمية كانت ضحية لتلك الأمسيات؟ بين أصابعه كانت أداته الشنيعة يشد الوثاق تارة ويرخيه تارة، وجمهوره على رقص آلامها يضحكون! حتى إذا تمزقت أوصالها، وخرجت أحشاؤها باتوا من منظرها يتقززون، فتنزع منها الفتائل، وبكل هوان ترمى في ذلك الموضع القبيح!
_ ستظلين بأمان ما دام أنك لا تخالفين اتجاه الخيط؛ إنما فنيتْ تلك الدمى وهلكت حين عاندت، فكانت نهايتها.
_ بقاؤك طوع هواه بقاءٌ لحياتك، قدرنا أن نظل في أسرهم، نحن في أمان إن تغافلنا هاتف الحرية. أرجوك أطيعيني، لا أريد أن أفجع بك أيضًا، كرهت هذا الصندوق، سئمت مصارع الهلاك فيه .
_ بل أنت أرجوك ساعديني، هات يدك لنخرج من هذا المكان معا.
_ إني أهاب الموت، أخشى أن ألقى مصير الأخريات.
_ كلا الحياتين موت يا رفيقتي، غير أن إحداهما مسربلة بأغلال ذل، والأخرى أُلبستْ تاج الكرامة.
_ لا لا.. لا أستطيع.
تركتها، ثم شخصت بالبصر إلى الأعلى حيث الخلاص. “ما لي أراه هكذا؟”. كان عاليا جدًا جدا جدا! أنّى لها أن تتجاوز هذه الأسوار الشاهقة، وهي في هذا العمق السحيق!.
طأطأت رأسها فانهالت على جسدها رمال البؤس والخيبة، وبينما هي على تلك الحال البائسة لمع أمامها فتيل خيط قصير، فتبعته فوجدته نهايةً لعقدةٍ في إصبع من أصابع التحريك. ابتسمت؛ ها قد برق لها أمل للخلاص الأبدي.
في يوم جديد، تسلل الضوء إلى صندوق الدمى، فاستسلمت لأنامل الحاكي يرقّصها على أي إيقاع للحياة أراد. كانت منسجمة مع الخيوط كما لم تنسجم مع انقباضاتها من قبل. وفي النهاية سمعت صوت أحد الحاضرين وهو يردد : “لقد كان عرضًا رائعًا جدًا”. صفق الجمهور بحرارة.
وفي غفلة من صاحب العرض وهو ينتشي بسروره متفاعلًا مع جمهوره نزعت الفتيل بقوة، فانطلقت ضحكاتها في الفضاء، طارت عاليا، محلقة وهاربة، نظر لها الجميع مبهوتين بما يحصل، فغرت أفواههم، فلم يكن منها إلا أن قالت:
_ وداعًا أيتها المقبرة، فلست موطناً لمن أراد الحياة.
“سأصمتُ دائمًا أبدًا، فلا تعبث بأحباري؛ فإن رمتَ العناق فدونك الأوتار أيقظني بألحاني” فاطمة مجيردي