بطولة من نوع آخر!

  • الجمعة مايو 1, 2020
  • 0 تعليق
بطولة من نوع آخر!

“ما أجمل الهدوء” قلتها وأنا أحتسي كوب الشاي الدافيء، ورائحة النعناع المنعشة التي تدغدغ أنفي تبعث مزيدًا من الاسترخاء في خلاياي، لكن لم يلبث أن اختفى هذا الهدوء وأنا أسمع ضجيج حفيدتي ذات التسع سنوات القادم باتجاهي، علمت آنذاك أن السلام الذي يسكنني سيختفي لبعض الوقت بقدومها.

كانت تصرخ بحماس، بعينين تشتعلان بالعدالة، وفِي يدها سيفًا بلاستيكيًا تدافع عن نفسها وعن قيمها الجديدة التي تبنتها – قيم الشخصية الكرتونية التي تقمصتها تحديدًا، أمام الأشرار الصغار، أبناء عمومتها التي أجبرتهم كالعادة على تقمص أدوار الأشرار – معركة صغيرة بين الخير والشر مليئة بالإزعاج حدثت قليلًا بجواري، ولم يكن لدي حل سوى الاستسلام، وأن أدعهم وشأنهم حتى ينخفض الأدرينالين في أجسادهم النحيلة، و يهدؤوا من تلقاء أنفسهم.

على أي حال أنا حقًا لا أمانع في القليل من الصخب في حياتي، بل أعترف أحيانًا أنني أحن إليه، فبعد أن تزوج جميع أولادي الثلاثة، ورحيل زوجي العزيز، أصبح المنزل هادئًا جدًا لا يُسمع فيه سوى وقع أقدامي وتحركاتي؛ لذلك أصبحت أنتظر دومًا موعد الزوارة الأسبوعي حتى يجتمع بي أبنائي بأبنائهم وتعود الحياة قليلًا في منزلي.

احتسيت رشفة أخرى من الشاي، وأنا ألقي نظرة على حفيدتي الصاخبة، أتساءل أي بطل كرتوني تقمصته هذه المرة! كان من الممتع لي أن أحاول في كل مرة تخمين الشخصية التي تلعبها، بدا الأمر مثل أحجية أنعش بها عقلي قليلًا.

ربطت شرشف الصلاة ليبدو مثل رداء فضفاض حول عنقها، نظارة شمسية سوداء وضعتها على عينيها، سيفًا بلاستيكيًا تقبض عليه بقوة في يدها، وأخيرًا قبعة قشية لا أعلم من أين أتت بها. هذه الأدلة المتناقضة، تجعلني في حيرة.

قلبت في عقلي عن الشخصيات الكرتونية التي أعرفها، فلترت سريعًا وقلصت الخيارات إلى الشخصيات ذات الأدوار البطولية، فأنا أعرف حفيدتي الصغيرة جيدًا، إنها تعشق الأبطال ودومًا تقوم بتقليدهم سواء كانت الشخصية أنثى أو ذكرًا أو حتى حيوانًا، فذات مرة وصل هوسها بالأبطال بأن تقلد “سيمبا” الأسد الملك، انتابتني نوبة من الضحك آنذاك عندما اكتشفت لماذا كانت تدور في الصالة على أطرافها الأربع، وتضع شعرا مستعارا وتصرخ بشكل غريب لمحاكاة زئير الأسد.

على أي حال عدت مجددا للتركيز على معرفة الدور البطولي الجديد الذي تقمصته، لنرى سوبرمان؟ لا لقد تقمصته الأسبوع الماضي، إلى جانب أنه لا يحتاج سيفًا ولا نظارة، ماذا عن روبن هود؟ أيضا لا، فسلاحه قوس وسهم، وجدتها باتمان، آه لا باتمان لا يرتدي قبعة ولا يستخدم سيفًا أيضا.

قلبت مخي مجددا ثم ابتسمت عندما عرفت الشخصية أخيرًا. “أنا زورو بطل العدالة استسلموا فورًا أيها الأشرار” صرخت بها حفيدتي وهي ترفع سيفها. كما توقعت، ويبدو لأنها لم تجد قناعا لعينيها فاستبدلته بنظارة، إنها تجد حلا لكل شيء. حسنا يجب أن أكافئ نفسي بقطعة كوكيز لأنني مازلت أملك ذاكرة جيدة.

احتسيت الشاي مجددا وأنا أفكر بأدوار البطولة، ابتسمت عندما التقطت ذاكرتي حدثًا من الماضي.

-لماذا تبتسمين هكذا ياجدتي؟

سألتني حفيدتي وعيناها تمتليء بالفضول:

-وهل يجب أن يكون هناك سببًا يا عزيزتي؟

أجبتها بلطف

-لا لكن عندما أراك تبتسمين فجأة هكذا يا جدتي، أعلم أن خلف ابتسامتك قصة من ذكريات الماضي، هيا أخبريني بها.

ابتسمت مجددًا لذكاء حفيدتي

-حسنا سأخبرك، هيا اجلسوا جميعًا.

نفذت طلبي فورا واتبعها أحفادي الصغار بنفس الفضول.

-في الماضي، في أثناء شبابي، كنت أصنف كبطلة فعلًا وساهمت في إنقاذ وطني.

-حقًا جدتي؟ هل كنت بطلة حقيقة؟

سألتني حفيدتي وعينيها تلمعان بحماس:

-نعم يا عزيزتي، لكن دوري البطولي كان مختلفًا عن أدوار الأبطال التي تتقمصيهم الآن، فلم أحتج إلى قوة خارقة من نوع ما.

-كيف ذلك أخبريني سريعًا.

-حسنا حسنا.

ثم أخذت نفسا عميقا وبدأت أسرد حكايتي، وبالأصح إحدى ذكريات الماضي.

-قبل نحو أكثر من ثلاثين سنة، واجه العالم كارثة غريبة.

-كارثة! أهي إحدى كوارث الطبيعة؟

-مشابه لها، الكارثة كانت عبارة عن فيروس ظهر فجأة من العدم، واجتاح العالم!

-عالمنا؟

-نعم!

-حتى بلادنا؟

-مع الأسف نعم، حتى بلادنا العزيزة واجهت خطر هذا الفيروس.

-هل كان الفيروس شريرا جدا يا جدتي؟

سألني أصغرهم ذات الأربع سنوات ببراءة

وجدت نفسي أضحك فجأة لذلك السؤال البريء، علمت أن خياله الصغير مازال يحوم داخل إطار البطل الطيب والبطل الشرير الذي جسدته لهم أفلام الكرتون.

-حسنا لنقل أن ذلك الفيروس كان مؤذيا للبشر.

-لماذا؟

-لأنه كان يصيب الجهاز التنفسي للإنسان، والأشخاص الذين مناعتهم ضعيفة، كانوا.. كانوا يتأذون بشدة.

لم أرغب بأن أخيفهم وأخبرهم بأن ذلك الفيروس حصد العديد من الأرواح حول العالم في الماضي، لذلك اكتفيت بما ذكرت.

-وكيف قامت بلادنا بإلقاء القبض عليه؟

وجه حفيدي ذات الأربع سنوات سؤاله البريء مجددا لي

-أيها الأحمق جدتي تقول أنه فيروس، وليس وحشا! إذن هو صغير الحجم جدا، ولا يمكنهم إلقاء القبض عليه.

أجابت حفيدتي، ثم نظرت إلي

-أليس كذلك ياجدتي؟

-نعم صحيح الفيروس كان صغيرا جدا ولا يمكن رؤيته بالعين المجردة إطلاقا.

ثم وجهت حديثي لحفيدتي المشاكسة

-ويمنع إطلاق الألقاب السيئة على بعضنا، أتذكرين هذا القانون يا عزيزتي؟

-آه آسفة

اعتذرت حفيدتي فورا

-جدتي لابد أن الأمر كان مخيفا.. صحيح؟

سألني أحد أحفادي الصغار بقلق

-حسنا كان الوضع مخيفا أنذاك، لأن ذلك الفيروس كان بمثابة العدو الخفي، الذي تعلم أنه يحيط بك، ولكنك في نفس الوقت لاتراه ولاتعلم أين يمكن أن يكون!

-جدتي هل كان لذلك الفيروس اسماَ؟

-نعم يا عزيزي، كنا نطلق عليه بإسم ” كورونا”

-إذا كنتم لا تستطيعون رؤية هذا الفيروس فكيف نجوتم منه ياجدتي؟

-بإتباع إرشادات حكومتنا.

-إرشادات حكومتنا؟

-نعم، فـحكومتنا ومنذ لحظة ظهور فيروس كورونا قامت فورا بكل الإجراءات والاحترازات المطلوبة سواء الصحية أو الأمنية وغيرها من أجل مواطنيها والمقيمين على أراضيها لحمايتهم من الإصابة بهذا الفيروس الذي لا يرى بالعين المجردة. وطلبت من الجميع إتباع الإرشادات الصحية في سبيل حمايتنا.

-إذن حكومتنا كانت البطل الحقيقي الحامي لشعبها من هذا العدو الخفي.

قالتها حفيدتي بحماس، فابتسمت:

-هذا صحيح، بعد فضل الله تعالى فحكومتنا كانت البطل الحامي لنا جميعًا، فقد كانت السباقة في اتخاذ العديد من إجراءات الحماية مقارنة ببعض الدول الأخرى وحتى المتقدمة منها.

سكت قليلا لقياس ردة أفعالهم على ما أقوله، وعندما رأيتهم مندمجين مع كلامي أكملت:

-وكذلك قدمت حكومتنا الرعاية والعلاج المجاني.

-العلاج المجاني! للجميع ياجدتي؟

أجبت مبتسمة ومشاعر الفخر بداخلي:

-هذا صحيح، العلاج المجاني لجميع من أصابه هذا الفيروس سواء من المواطنين أو المقيمين وحتى المخالفين لنظام الإقامة، وهذا يعتبر أسمى درجة العدل والإحسان.

-واو هذا مذهل يا جدتي.

ثم سألني أحد الصغار:

-جدتي الأطباء لا بدَّ أنهم كانوا أبطالا أيضا أليس كذلك؟ لأن هناك كثير من المرضى.

-هذا صحيح، وكنا نطلق عليهم بإسم أبطال الصحة.

ثم ابتسمت قائلة:

-وهناك أيضا أبطال آخرون شاركوهم في هذه المعركة.

-أبطالا آخرون! من هم ياجدتي؟

-رجال الأمن، كانوا الأبطال.

-هل كانوا يعالجون المرضى أيضًا؟

سألني أحدهم ببراءة.

-لا، فهذا لم يكن اختصاصهم، بل اختصاصهم بتقديم الحماية والأمن للمواطنين والمقيمين على حد سواء، وكذلك حماية دولتنا من أي هجوم قد ينشأ من خارج البلاد.

-واو هذا جميل، الجميع كان متعاون.

-نعم ذلك صحيح، وكذلك الشعب بدوره متعاون بالالتزام بالإجراءات والأوامر التي فرضت في سبيل الحماية وإيقاف انتشار الفيروس، ففي تلك الفترة العصيبة، كان قد فرض حظر تجوال، وحرص الجميع على الالتزام به والبقاء في المنزل.

-هذا رائع جدا يا جدتي، الجميع متعاون ويدعمون ويساعدون بعضهم بعضا، يبدو الأمر مثل الأفلام تماما

قالتها حفيدتي بكل حماس وخيالها الخصب يحفز حماسها كالعادة

-هذا صحيح.

ثم تذكرت أمرا جعلني أستأنف بأسى قليلا:

-حسنا لأكون صريحة معكم، لم يكن الأمر سهلا في البداية، فمع الأسف كان هناك فئات من الناس لم تكن تدرك خطورة الوضع الذي نواجهه، ولم تكن حريصة على الالتزام التام بما وجهته لنا حكومتنا، واستمروا بالمخالطة بالآخرين سواء في التجمعات العائلية وغيرها متجاهلين الجهود الجبارة التي يبذلها الجميع، وهذا ما جعل الفيروس يستمر بالإنتشار لفترة.

صمت قليلا، ورفعت نظري نحو أحفادي الصغار فوجدت نظرات القلق تنتابهم، فأسرعت بإكمال حديثي:

-لكن فيما بعد، لحسن الحظ انتشر الوعي وبدأ الجميع بتدارك الوضع وانتصرنا بفضل الله تعالى أولًا ثم بفضل حكومتنا الرشيدة وتعاون الجميع بلا استثناء على ذلك الفيروس.

-هذا رائع جدا.

صرخوا بها الجميع بسعادة لتلك النهاية السعيدة.

-لكن يا جدتي، ما هو الدور البطولي الذي قمت به أنتِ ؟ هل كنت طبيبة؟

سألت حفيدتي

-لا

-إذن شرطية؟

-أيضا لا.

ظهرت ملامح الحيرة على حفيدتي وعلى البقية، فأجبت مبتسمة:

-دوري البطولي كان مختلفا، فقد كنت بطلة من نوع آخر.

واستأنفت حديثي قائلة:

-التزمت بالحجر الصحي المنزلي، وبكل التعليمات والإرشادات التي وجهتنا بها الحكومة في ذلك الوقت لمنع انتشار الفيروس. بالتزامي هذا ساهمت – مع غيري – بحماية الجميع والحد من انتشار الفايروس، وهذا كان دوري البطولي.

خديجة شولق كاتبة وقاصة, مهتمة بأدب الأطفال ولها سلسلة قصص اقرأ و امرح مع ميمي، وسيسي، ونيني

مشاركة:

اقسام المدونة